عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الادارة
رجب رزق
رئيس التحرير
سامي خليفة
الرئيسية القائمة البحث

نضج الأربعين


"وداعا للثلاثينات من العمر"، كان هذا هو الرد الذي تلقيته حين هنأت شابا من أقربائي بعيد ميلاده الأربعين. و قد أثار هذا الرد بداخلي كثيرا من التأملات والأفكار. وأعتقد أنه ربما قد حان الوقت لأتأملها وأتناولها بصورة أكثر عمقا، لعلها تساعد الآخرين علي التعامل مع معطيات هذه المرحلة وسماتها البارزة، التي لم يفلت منها أحد بطبيعة الحال. والتي قد تترك آثارا مدمرة علي حياة البعض. أو تصيبهم بإحباط وكآبة يشعر بها من كان مضطرا لقبول أوضاع معينة في حياته علي مضض، دون أن يتمكن من إيجاد وسيلة للتكيف معها.

ولا بد بداية أن أشير الي حقيقة هامة. ألا وهي أن حياة الإنسان مراحل. كل مرحلة منها لها سماتها وخصائصها. ففي مرحلة العشرينات من العمر، يكون لدي الإنسان طاقات وقدرات بدنية كبيرة. يشعر خلالها أنه قادر علي تحريك الجبال من مكانها، إن هو أراد. يتزامن معها تصورات وأحلام وطموحات هائلة، وحماس جارف. مع اندفاع قوي نتيجة الخبرة القليلة، وعدم اكتمال النضج والوعي، العقلي والنفسي والوجداني. وينتج عن ذلك أخطاء فادحة في الحسابات بسبب غياب القدرة علي تحقيق التوازن بين ما نطمح إليه، وما نستطيع أن نحققه وفقا لإمكانياتنا الشخصية والواقع المادي الملموس.

وفي معظم الأحيان تتراكم التجارب الحياتية علي المستوي الشخصي والمهني والعملي والعاطفي والإنساني خلال مرحلة الثلاثينات من العمر. فيبدأ وجدان الشخص في التشكل بصورة كبيرة خلالها مع تعرضه للتجارب والعثرات والتحديات، سواءا علي المستوي الشخصي أو العملي. ومع تكرار التجارب والإصطدام بواقع الحياة العملية، يبدأ في اكتشاف أمورا جديدة عن نفسه، وعن الآخرين، وعن الحياة بصفة عامة. وهي مرحلة دقيقة، لأنه سوف يبدأ خلالها في إعادة تقييم أفكاره وطموحاته، وعلاقاته الإنسانية، في ضوء ما كشفته له التجارب والخبرات التي مر بها. وقد يسوقه ذلك لا إراديا لإتخاذ بعض القرارات الحاسمة في حياته. مثل المهنة التي سوف يمتهنها، أوالأشخاص الذين يرغب في التواجد بالقرب منهم، واختيار الشريك المناسب لتكوين أسرة، والمضي قدما في مسيرة الحياة.

ويمضي الوقت سريعا في اطار حياة مرسومة. أكثر خصائها المميزة هي الدفع الذاتي. حيث يجد الإنسان نفسه محتاجا للتكيف مع واقعه والتعامل مع مسؤولياته والتزاماته بصورة تلقائية ومنطقية. الي أن ينتبه فجأه أنه قد أتم عامه الأربعين. فينتابه فزع، وتتجاذبه أنواء نفسية قاسية، ليتساءل أين مضي أغلب عمره؟ وأين أحلامه وطموحاته؟ وماذا أصبح اليوم؟ وماذا حقق لنفسه؟ وفي الواقع أن تلك المرحلة يميزها قدر كبير من النضج، الوجداني والعقلي والعاطفي. ويبدأ الإنسان فيها في إعادة تقييم حياته وطموحاته. مع وعي كبير وإدراك لذاته الإنسانية المتفردة.

هنا يبدأ الصراع الداخلي والذي اعتدنا تسميته مجازا بأزمة منتصف العمر. وهي مرحلة دقيقة، لأنه قد ينتج عنها قرارات مصيرية. قد يتخذ قرارا بتغيير حياته بصورة كاملة. وبغض النظر عن الأطراف الأخري المرتبطة بهذه الحياة. أو قد يقرر تقبل واقعه علي مضض، نتيجة عدم قدرته علي مواجهة الأمر، أو دفع الكلفة النفسية والمادية الباهظة للتغيير المنشود. والقليلون هم الذين يتمكنوا من التوصل الي صيغة متزنة من التكيف مع المسؤوليات الواقعية والإنسانية والأدبية، مع إيجاد متنفس أدبي وإنساني، يحافظ فيه الفرد علي استقلالية كيانه، كذات تدرك واقعها وتطمح الي حياة أكثر تواؤما مع أحلامها. تتمكن من خلالها لعب دورها في الحياة بإيجابية وحماس مع عدم الإخلال بمسؤولياتها تجاه المجتمع والأطراف الأخري.

وذلك هو التحدي الأعظم في الحياة. حين يكتمل وعيي بذاتي ونضجي الوجداني والإنساني، فأتمكن من إيجاد صيغة لحياتي المستقبلية، أحقق بها هدفي في الحياة مع الحفاظ علي مسؤولياتي الأدبية والأخلاقية تجاه من حولي وفقا للظروف التي خلقها الواقع العملي.

سوف يساعدنا كثيرا أن نفهم أنفسنا ونفهم المراحل المختلفة التي نمر بها في مشوار حياتنا وتأثيرها علي نفوسنا وتصوراتنا وتصرفاتنا. وقتها لن نشعر أنها مشكلة فردية خاصة بنا. ولكنها بالأحري سمة إنسانية من سمات البشر. يتساوي الناس في التعرض لها ويتميزوا في تعاملهم معها بقدر وعيهم بطبيعتها وفهمهم لذواتهم.