"صاحب الابتدائية" نموذج "المُثقف الموسوعي".. "العقاد" عندما يصبح "الشاعر" عضوًا بمجلس النواب

عباس محمود العقاد، ذلك النمط الإنسانى الفريد، والنموذج الحى على كيفية أن يصبح مجرد "عامل بالسكة الحديد"، لا يمتلك مقومات التعليم ولا القدرة المالية، إلى مفكر كبير صاحب معرفة ومنهج ضخم ومؤلفات كبرى، حتى صار مُعجِزًا لـ"خبراء التنمية البشرية" الذين طالما دلَّلوا فى مناهجهم على أمثلة غربيّة فى النجاح والتفوق، من دون ذكر اسمه ومشوار حياته.
ابن مدينة أسوان، "عروس النيل فى مصر"، حَالَ عدم توفّر المدارس بالصعيد، بينه وبين استكمال طريق تعليمه الرسمي، فالتحق بالمدرسة الابتدائية، وكانت لحظة فارقة عندما زار مدرسته الإمام محمد عبده، ورأى دفتره وأعجب به، فبشره بأنه سيكون كاتبًا له شأن عظيم، بينما لم تتمكن أسرته من إرساله إلى القاهرة، لاستكمال دراسته بعد "الابتدائية"، كما يفعل الأعيان بأبنائهم، لكنه كان قد ملك زمام الاطلاع وآلية التعلم، إذ قال عن نفسه: "عرفت قبل أن أبلغ العاشرة أنى أجيد الكتابة وأرغب فيها، ولم ينقطع عنى هذا الشعور بعد ذلك، إلى أن عملت بها واتخذتها عملًا دائمًا مدى الحياة".
العقاد نحَت على الحوائط الأثرية بأسوان جملة "علم نفسك بنفسك"، فخالط السيَّاح الأجانب الذين قدموا من كل حدب وصوب ليستمتعوا بآثار "مدينة النيل"، وراقب لهجاتهم المختلفة، وردّد وراءهم ما ينطقون، حتى صار عارفًا ومتقنًا للغة الإنجليزية، فمكَّنه ذلك من القراءة والاطلاع على الثقافات البعيدة والمختلفة، والتى أثرَت خزانته المعرفية.
عمل "العقاد" فى بداية حياته بمصنع للحرير فى مدينة دمياط، ثم عمل بالسكك الحديدية، ثم موظفًا فى الحكومة بمدينة قنا، ثم نُقِلَ إلى الزقازيق، وعمل فى القسم المالى بمديرية الشرقية، لكنه كان ينفق معظم راتبه الشهرى على شراء الكتب فى جميع المجالات، ثم بمحض إرادته استقال من الوظيفة الحكومية، إذ قال عن نفسه: "كنت أول موظف مصرى استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة تشبه الانتحار".
انتقل "العقاد" إلى القاهرة واستقر بها، حيث كان انتقاله بمثابة شارة البدء لدخول عالم آخر، غير الذى خبره وتعرف عليه، إذ عمل بالصحافة، وأسس بالتعاون مع إبراهيم المازنى وعبدالرحمن شكرى "مدرسة الديوان"، وكانت هذه المدرسة تضم أنصار التجديد فى الشعر، والخروج به عن القالب التقليدى العتيق.
نشر "العقاد" أشعاره فى كثير من الصحف والمجلات، إذ أصدر فى هذه المرحلة دواوين: "وحى الأربعين"، و"هدية الكروان"، و"عابر سبيل"، وكان يرى أن الحياة بجميع صورها وجزئياتها الصغيرة تصلح لأن تكون موضوعات شعرية.
كان منهج العقاد السردى سائدًا فى جميع مؤلفاته ومؤثرًا فى تلامذته، إن كتب عشرات الكتب فى الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع كان أشهرها: "مطالعات فى الكتب والحياة"، و"مراجعات فى الأدب والفنون"، و"أشتات مجتمعة فى اللغة والأدب"، و"ساعات بين الكتب"، و"عقائد المفكرين فى القرن العشرين"، و"جحا الضاحك المضحك"، و"بين الكتب والناس"، و"الفصول"، و"اليد القوية فى مصر"، وألف فى الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب "الديوان فى النقد والأدب".
لكن الصفحة القوية المجهولة فى تاريخ العقاد هى أفكاره ومؤلفاته فى عالم السياسة إذ أصدر كتاب "هتلر فى الميزان"، و"أفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم فى العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، وهو فى هذه الكتب يحارب الشيوعية والنظم الاستبدادية، ويمجد الديمقراطية التى تكفل حرية الفرد.
أما مؤلفات العقاد الإسلامية فقد تجاوزت الأربعين كتابًا، إذ ضمت جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، متناولةً أعلام الإسلام فى سلسلة كتب عرفت بـ"العبقريات"، بدأها بـ"عبقرية محمد"، ثم "عبقرية الصديق"، و"عبقرية عمر"، و"عبقرية علي"، و"عبقرية خالد"، و"داعى السماء بلال"، و"ذو النورين عثمان"، و"الصديقة بنت الصديق"، لكنه لم يكن مهتما بسرد الوقائع، وترتيب الأحداث، وإنما اهتم بنسج صورة حية للشخصية تُعرِّف القارئ بها تعريفا دقيقا، وترسم مشاعره وتطلعاته، وتبرز إنسانيته فى المقام الأول.
دافع العقاد عن الإسلام من خلال عدة كتب، منها: "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه"، و"الفلسفة القرآنية"، و"التفكير فريضة إسلامية"، و"مطلع النور"، و"الديمقراطية فى الإسلام"، و"الإنسان فى القرآن الكريم"، و"الإسلام فى القرن العشرين".
كانت معارك العقاد الأدبية، ظاهرة أثرت الفكر والثقافة، إذ تجادل مع مصطفى صادق الرافعى حول فكرة إعجاز القرآن، ومع طه حسين حول فلسفة أبى العلاء المعري، ومع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس فى قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية، لكن أشهر معاركه كانت مع جيل الرواد فى الشعر العربى الحديث إذ رفض اشتراك الشاعرين أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور فى مسابقة لجنة الشعر، وقت كان يرؤسها فى المجلس الأعلى للثقافة، بسبب كتابتهما قصيدة التفعيلة التى رفضها وحاربها بضراوة.
وترشح "العقاد" لعضوية مجلس النواب، واختاره أهل دائرته نائبًا عنهم، وخاض من أجل ذلك صراعات كبرى ضد السلطة الحاكمة، وصلت لحد سجنه، لكنه ظل مدافعًا عن الدستور والقانون، فصار إنسانًا شاملًا موسوعيًا، كموظف، وأديب، ومفكر، وسياسي، وظل عظيم الإنتاج، لا يمر عام من دون أن يسهم فيه بعدة كتب، حتى تجاوزت كتبه مائةَ كتاب، ووقف حياته كلها على خدمة الفكر الأدبى حتى لقى الله.
نقلا عن النسخة الورقية