25 يناير 1952.. معركة الشرف للشرطة المصرية.. نسرد بالتفاصيل اللحظات الصعبة التي عانتها القوات في الدفاع عن وطنهم

"حولني على فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية على التليفون.. مين يا فندم، أنا اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام في الإسماعيلية، حاضر يا فندم.. معالي الوزير صباح الخير.. صباح النور... يا فندم قوات الاحتلال البريطاني وجهت لنا إنذار برحيل قوات البوليس عن مدينة الاسماعيلية واحنا يافندم رافضين وقررنا المقاومة.. حتقدروا يا أحمد.. يا فندم مش حنسيب الإسماعيلية حتى لو ضحينا بآخر نفس فينا.. ربنا معاكم استمروا في المقاومة".
بهذه الكلمات بدأت معركة الكرامة والشجاعة الحقيقية فى 25 يناير عام 1952 في الإسماعيلية، تلك المعركة التي سطر فيها رجال الشرطة بطولة لم ولن ينساها التاريخ، لقد استشهد في هذا اليوم حوالي 50 بطلا من أبطال الشرطة المصرية، وأصيب 80 آخرون، في سبيل آداء واجبهم، فكانوا مثالا وقدوة لزملائهم على مر الزمان في التضخية والتفاني في العمل.

بطولات رجال الشرطة التي نراها اليوم تعد امتدادًا طبيعيًا لتاريخ طويل من البطولات والتضحيات، به العديد من المحطات التي تؤكد وطنية هذا الجهاز، وحرص أفراده على التضحية بالغالي والنفيس لحفظ أمن المواطن وسلامته، ولكن أبرز المحطات في ذلك التاريخ، والتي خلدت كعيد للشرطة، كانت ذكرى موقعة الإسماعيلية التي وقعت في 25 يناير عام 1952، وراح ضحيتها 50 شهيدًا و80 جريحًا من رجال الشرطة المصرية على يد الاحتلال الإنجليزي، بعد أن رفض رجال الشرطة تسليم سلاحهم وإخلاء مبنى المحافظة للاحتلال الإنجليزي.
كانت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية بمقتضى اتفاقيه 1936، والتي كان بمقتضاها أن تنسحب القوات البريطانية إلى محافظات القناة فقط دون أى شبر في القطر المصري، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة، وكبدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة؛ وذلك كان يتم بالتنسيق مع أجهزة الدولة في ذلك الوقت.

وكان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن هجمات فعالة وقاسمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن له البريطانيون؛ حيث قاموا بترحيل المصريين الذين كانوا يسكنون الحي البلدي في الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحي الأفرنجي؛ وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين وزادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.
وعندما علمت القوات البريطانية بأن رجال الشرطة يساعدون الفدائيين، قررت خروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون ذلك في فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجئ رجال الشرطة بعد وصولهم إلى مقر عملهم في مبنى محافظة الاسماعيلية، بقوات الاحتلال البريطاني تطالب اليوزباشي مصطفى رفعت قائد بلوكات النظام المتواجدة بمبنى محافظة الاسماعيلية، بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك أسلحتهم بداخل المبنى، وحذروهم بمهاجمة المبنى في حالة عدم استجابتهم للتعليمات.
لقد تخيل الاحتلال البريطانى أن رجال الشرطة سيخافون على حياتهم، ويتركون سلاحهم ويهربون، حفاظًا على أرواحهم، ولكنهم فوجئوا ببطولة سطرت في تاريخ مصر المشرف بأحرف من نور؛ حيث رفض اليوزباشي مصطفى رفعت الانسحاب وترك مبنى المحافظة، وقال لقائد قوات الاحتلال اكس هام "إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضي، وأنت الذي يجب أن ترحل منها ليس أنا.. وإذا أردتوا المبنى فلن تدخلوه إلا ونحن جثثا"، ثم تركه ودخل مبنى المحافظة وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشى عبد المسيح، وروى لهم ما دار بينه وبين اكس هام، فما كان منهم إلا وأيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال على الرغم من عدم التكافؤ الواضح فى التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعا ما.

وبدأت المعركة من خلال قيام القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة أدت إلى تدمير غرفة الاتصال "السويتش" بالمبنى، وأسفر عن استشهاد عامل التليفون، لتبدأ المعركة بقوة، والتي شهدت في بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشي مصطفى رفعت قائد قوة بلوكات النظام المتواجدة داخل مبنى المحافظة إلى ضابط الاحتلال البريطاني في مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصري، فتوقفت الاشتباكات ظنًا من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشي مصطفى رفعت يطلب الاتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، ولكنهم رفضوا واشترطوا خروج الجميع أولا والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتى لم يغب عنها أيضا أهالي الإسماعيلية الشرفاء؛ حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.
ومع استمرار الاشتباكات، بدأت الذخيرة في النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضا مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعا فاتحة كتاب الله والشهادتين، بما فيهم الضابط المسيحى اليوزباشي عبدالمسيح في لحظة تؤكد مدى تماسك ووحدة شعب مصر العظيم، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشي مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال "اكس هام" أملا منه في أن يؤدى ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه... وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من "اكس هام"، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشي رفعت إلا أن يبادله التحية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال ماتيوس قائد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة القناة بالكامل.

وتحدث الجنرال ماتيوس إلى اليوزباشى مصطفى رفعت، وقال له بأنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التي معهم ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطاني المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك مع الموافقة على شروطه وهى أن يتم نقل المصابيين والاتيان بالاسعاف لهم، وأن الجنود التي تخرج من المبنى لن ترفع يديها على رأسها وتخرج بشكل عسكري يليق بها مع تركهم لأسلحتهم داخل المبنى.. فوافق الجنرال ماتيوس على تلك الشروط وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بها وهم في طابور منظم.
لقد أسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية عن استشهاد نحو 50 من رجال الشرطة وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون ليست يوما فقط أو عيدًا للشرطة المصرية، ولكنها أصبحت عيدًا قوميا لمحافظة الإسماعيلية وللشعب المصري كله.. فتحية إلى أبطال يؤدون واجبهم ويضحون بالغالي والنفيس من أجل رفعة هذا الوطن، وتحقيق أمن وسلامة مواطنيه.. أبطال كانوا ومازالوا وسيظلون على عهدهم دائما بالتضحية بأرواحهم من أجل حفظ مقدرات أرض الكنانة.




