نيويورك تايمز: تدخل بوتين في سوريا خوفا من ضعف سلطة الحكومة

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أنه في ليلة 5 ديسمبر 1989 كان فلاديمير بوتين في ذلك الوقت ضابطا برتبة لفتنانت كولونيل في جهاز الإستخبارات السوفيتية السابق (كيه.جي.بي) وشاهد بترقب احتشاد الآلاف من الألمان الشرقيين في دريسدن أمام مجمع لجهاز الشرطة السرية اللعين " ستاسي".
وأوردت الصحيفة على موقعها الإلكتروني أن جدار برلين كان قد اخترق قبل ذلك الحدث بشهر، وكانت الحكومة الشيوعية التي حكمت ألمانيا الشرقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تلفظ آخر أنفاسها وذلك مع احتلال المواطنين للشوارع في جميع أنحاء البلاد.
وكان الضابط الشاب- الذي اصبح رئيس روسيا فيما بعد – يبلغ 37 عاما في ذلك الوقت، يقف بلا حول ولا قوة في النقطة التابع لجهاز الكي جي بي في درسدن على بعد بضع مئات من الأقدام من مكان الحشود.
وأضافت الصحيفة أن السيطرة على مقر جهاز الشرطة السرية كانت سلمية نسبيا، ولكن في عقل السيد بوتين كان الحشد محموما، مختلا وخطيرا، ولكن التجربة التي مر بها بوتين في تلك الليلة ظلت تطارده أكثر من أي شيء آخر مر به في حياته المهنية كضابط مخابرات. وقال بوتين لصديقة سيرجي رودولجين "شعرت وكأنه ذنبي أنا ".
وتابعت الصحيفة أن ألمانيا الشرقية بعد ذلك بقليل لم يعد لها وجود، مثلما حدث بعد ذلك في الاتحاد السوفيتي في أعقاب انقلاب فاشل في أغسطس 1991، وأصبح يعاني من البلاء الذي وصفه بوتين بأنه "شلل السلطة".. كان هذا التشخيص قوة دافعة له في تعزيز قوته السياسية ويفسر لماذا تدخلت روسيا بالقوة الأسبوع الماضي لدعم حكومة الرئيس السوري بشار الأسد المحاصرة.
وأوضحت الصحيفة أن شبح الاحتجاجات الحاشدة - حكم الغوغاء – يعتبر أحد الأشياء التي لازمت السيد بوتين طوال حياته السياسية، وهذا الخوف يكمن في صميم إيمانه بأولوية سلطة الدولة فوق كل اعتبار، على حد سواء في الداخل والخارج.
وأشارت الصحيفة إلى أن الألمان الشرقيين اعتبروا احتجاجاتهم تعبيرا عن الإرادة الشعبية، كما فعل العديد من السوريين عندما بدأوا الاحتجاجات ضد حكومة الأسد في عام 2011. ولكن بوتين ينظر لها على أنها اغتصاب غير قانوني لسلطة الحكومة.
وهذا، في رأيه، يؤدي لا محالة إلى عدم التغيير السياسي الإيجابي، بل إلى الفوضى.
وقال بوتين يوم الإثنين الماضي في الأمم المتحدة- حيث تحدث للمرة الأولى منذ عشر سنوات- "بطبيعة الحال قد تتراكم المشاكل السياسية والاجتماعية لفترة طويلة في هذه المنطقة، والناس هناك يريدون التغيير"
ولفتت الصحيفة إلى أن انهيار الاتحاد السوفيتي والفوضى التي أعقبته جعلت أفكار بوتين مظلمة بشأن الديمقراطية المطلقة.
وكان متناقضا بشكل بالغ إزاء الاحتجاجات التي سارعت بتفكك الاتحاد السوفيتي، وبصفته مساعدا لرئيس بلدية سان بطرسبرج انذاك هلل لرد بوريس يلتسين القوي ضد الانتفاضة السياسية في الأزمة الدستورية عام 1993، والتي بلغت ذروتها بقصف البرلمان.
وفي عام 1998، وكرئيس لمجلس الأمن التابع ليلتسين، توسط بوتين في النزاع الانتخابي في المنطقة الجنوبية من كرتاشييفو-شركسيا لمنع تفجر العنف بين الجماعات العرقية المتنافسة..وكان الدرس الذي قال أنه تعلمه أن القبضة القوية للدولة كان يمكنها تجنب الفوضى الاقتصادية والسياسية التي استهلكت روسيا في تسعينيات القرن الماضي . وينتشر هذا الاعتقاد على نطاق واسع في روسيا، وهو أحد أسباب شعبية بوتين الحقيقية في الداخل.
وقال لمجموعة من الأكاديميين الأجانب في عام 2005 إن "الشعب الروسي مختلف ".. واضاف "إنهم لا يستطيعون التكيف مع الديمقراطية كما فعلوا في بلادكم. انهم بحاجة إلى وقت ".
وذكرت الصحيفة أن عدم الثقة هذه في الإرادة الشعبية أصبح مبررا للقوانين التي تخنق المعارضة في الداخل. مع كل انتخاب، وشدد الكرملين القواعد التي تنظم الأحزاب السياسية والتجمعات العامة. عندما خرج عشرات الآلاف من الروس إلى الشوارع للاحتجاج على التزوير في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2011 وخاصة اعادة انتخاب السيد بوتين في عام 2012، رد الكرملين بقوة لوقف انتشار العدوى.
وأضافت أن الشرطة اعتقلت وأدانت عشرات من المحتجين على مدى العامين التاليين، في حين ضايقت السلطات أبرز قادة المعارضة، مثل ألكسي نافالني.. وفي فبراير من العام نفسه اغتيل ، بوريس نيمتسوف، نائب رئيس الوزراء السابق، خارج الكرملين.
وتابعت الصحيفة أن ما يلفت النظر، هو كيف أصبحت وجهة نظر بوتين بشأن الاحتجاج العام أساسا لسياسة خارجية حازمة على نحو متزايد وتهدف إلى مواجهة الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وغيرها لانتهاك سيادة الدول عن طريق تشجيع التغير السياسي.
واعتبر الرئيس الروسي دعم الولايات المتحدة لـ"الثورات الملونة" التي اجتاحت جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق - جورجيا في عام 2002، وأوكرانيا في عام 2004 وقرغيزستان في عام 2005 - كدليل على السياسة الأمريكية للإطاحة بالحكومات في ما كان تاريخيا مجال نفوذ روسيا .
والخوف من "لون" العدوى - اللون، كما البرتقالي الذي ارتداه أنصار الرئيس الاوكراني السابق فيكتور يوشينكو - ساهم في تدهور الحريات السياسية في روسيا. وأشار أنتوني كوردسمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن في تقرير صدر يوم الجمعة أن هذه الانتفاضات الشعبية تم دراستها من قبل القادة العسكريين الروس على "إنها نهج أميركي وأوروبي جديد في الحرب التي تركز على خلق الثورات زعزعة الاستقرار في الدول الأخرى كوسيلة لخدمة مصالحها الأمنية بتكلفة منخفضة وبأقل قدر من الضحايا ".
وتعتبر الحرب الأهلية في سوريا، وفقا لهذا الرأي، هي مجرد الحدث الأحدث في سلسلة من الصراعات الفوضوية التي تنشأ عن إسقاط أو إضعاف السلطة المركزية من خلال العدوان الأمريكي. وتشمل الحالات السابقة الحرب الأميركية في العراق التي أطاحت بصدام حسين، والتدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا في عام 2011.
وقالت الصحيفة إن الأحداث في ليبيا كانت عاملا حاسما في إصرار بوتين على العودة إلى الرئاسة بعد تخليه عنها، على الأقل رسميا، وفقا للحدود الدستورية من ولايتين متتاليتين. مع تلميذه ديمتري ميدفيديف في الكرملين في ذلك الوقت، أذعنت روسيا لاستصدار قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أجاز استخدام القوة ضد حكومة العقيد معمر القذافي.
وتابعت الصحيفة انه وبشكل أكثر اعتدالا من معلمه، وأقل شبهة من وجود دوافع خفية، كان السيد ميدفيديف أكثر تساهلا بكثير في التعاون مع الغرب. حتى أنه عبر عن تعاطفه مع الطموحات الديمقراطية لأولئك الذين نزلوا إلى الشوارع في تونس ومصر وليبيا، قائلا إن الحكومات "تفقد الأساس الحقيقي" إذا لم تتعامل مع مظالم المحتجين.
وعندما قمعت حكومة القذافي بعنف الاحتجاجات في ليبيا، تم دفع ميدفيديف من خلال النداءات الإنسانية من نظرائه الأميركيين والأوروبيين. وأصدر تعليماته لممثل روسيا في الأمم المتحدة إلى الامتناع عن التصويت على القرار، والسماح للحملة الجوية الأمريكية والأطلسية والتي أطاحت في نهاية المطاف بالقذافي.
أضافت الصحيفة أن بوتين كان غاضبا مما دفعه للقيام بأكبر خرق عام تجاه السلطة التي حكمت البلاد من 2008 إلى 2012. وقال بشأن القرار "هذا يذكرني بدعوات القرون الوسطى لحملة صليبية"، منددا بالحرب باعتبارها مظهر آخر من مظاهر الهيمنة الأمريكية الأخذة في الانتشار.
ووفقا لعدد من المسؤولين المقربين من الكرملين، كان التردد الخطير من ميدفيديف بشأن القرار حول ليبيا عاملا حاسما في قرار بوتين بالعودة للرئاسة، والذي أعلنه بعد ستة أشهر.ومنذ عودته للرئاسة، منعت روسيا القرارات مرة بعد أخرى ضد الحكومة السورية، الأمر الذي أثار انتقادات بأن تعنتها زاد من سوء الصراع في سوريا.
ومع اندلاع الاحتجاجات مرة أخرى في أوكرانيا في شتاء عام 2013 وعام 2014 كان بوتين قد عاد بقوة إلى الرئاسة. ويبدو أن الاضطراب قد بدت له وكأنها استمرار في توغل العدوان الخارجي الذي يسير بلا هوادة إلى الكرملين نفسه. (تلك الحجة الت تسببت في تجاهل المظالم الأصلية التي دفعت الأوكرانيين إلى الشوارع).
وقال بوتين عندما بدأت الاحتجاجات "أي مواطن لديه الحق في التعبير عن رأيه حول القرارات التي اتخذت، ولكن هذا يجب أن يبقى في حدود القانون".
وقال في الأمم المتحدة الاسبوع الماضي إنه "تم استخدام الإحباط الشعبي الواسع من الحكومة للتحريض على انقلاب عسكري من الخارج".
واستخدم السيد بوتين الفوضى التي عمت اوكرانيا في فبراير 2014 بعد اسقاط النظام في كييف لتبرير ضم شبه جزيرة القرم ودعم التمرد المسلح في شرق أوكرانيا التي اعلنت من جانب واحد انفصالها عن البلاد ذلك التمرد الذي أودى بحياة أكثر من 7 آلاف شخص.
وأوضحت الصحيفة أن كثيرين فسروا بأشكال مختلفة تدخل بوتين في سوريا .. فالبعض يرونه كرد على الضغوط الداخلية الناجمة عن الاقتصاد المتعثر مع انخفاض أسعار النفط والعقوبات التي فرضت بعد شبه جزيرة القرم. وآخرون يرون أنه رغبة في تغيير الموضوع من أوكرانيا؛ أو إعادة تأكيد موقف روسيا في الشرق الأوسط.
كلها عوامل ربما، ولكن في قلب الضربات الجوية فإن بوتين يدافع عن مبدأ أن الدولة قوية بأكملها، وينبغي أن تدافع عن نفسها ضد الجحافل، وخصوصا تلك القادمة من الخارج. وأنها رسالة تحذيرية.
وأعلن بوتين أمام الأمم المتحدة أنه "لا ينبغي أن تضطر الأمم إلى أن تتوافق على نموذج تنمية معين يعلن شخص ما أنه الأكثر ملائمة .. وأضاف أن الاتحاد السوفيتي سعى ذات مرة لتصدير "التجربة الشيوعية، وحث لإجراء تغييرات في بلدان أخرى لأسباب أيديولوجية، وهذا أدى في كثير من الأحيان إلى عواقب مأساوية وتسببت في التدهور بدلا من التقدم".