التمدد الناعم.. كيف بنى الإخوان شبكة مؤسسات معقدة للتغلغل في أوروبا؟
تواجه أوروبا اليوم تحديًا استراتيجيًا لم يكن مطروحاً عندما استقبلت موجات اللاجئين والمهاجرين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
فقد تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من إنشاء شبكة واسعة ومتشعبة من المؤسسات والمنظمات والجمعيات المنتشرة في مختلف الدول الأوروبية، ما حوّل القارة من ملاذ آمن للباحثين عن حماية إلى قاعدة انطلاق لمشروع سياسي ذي طموحات عابرة للحدود، بحسب خبراء.
البدايات الأوروبية
بدأت القصة في ستينيات القرن الماضي، عندما فر قادة الإخوان من مصر.
كان سعيد رمضان، صهر حسن البنا مؤسس الجماعة، من أوائل من أسسوا جذور التنظيم في أوروبا. استقر في ميونخ بألمانيا وأسس مركزًا إسلاميًا حول مسجد وأصبح، وفقًا للمصادر التاريخية، ملاذًا للجماعة خلال عقود من الاضطهاد.
بفضل التمويل السخي من بعض الدول، تمكن رمضان من بناء شبكة من المؤسسات في عدة دول أوروبية. وبحلول السبعينيات، كانت الشبكة قد توسعت لتشمل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا.
وعلى عكس الجماعات الأخرى التي تسعى للتغيير السريع والعنيف، تبنى الإخوان في أوروبا استراتيجية الصبر والتغلغل التدريجي.
ووفقًا للخبير الإيطالي-الأمريكي لورنزو فيدينو، مدير برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن، فإن الجماعة اعتمدت نهج "الدخولية" - وهي استراتيجية تتضمن التسلل الصبور للمؤسسات، وبناء الشبكات، وتحويل المعايير المجتمعية تدريجيًا.
أرقام مقلقة
حدد تقرير البرلمان الأوروبي لعام 2024 ستة هياكل رئيسية ترتبط بشبكة الإخوان وتعمل على مستوى القارة، مشكّلة ما يعتبره التقرير البنية المؤسسية للجماعة في أوروبا.
وتشمل هذه الهياكل: مجلس مسلمي أوروبا (CEM)، ومنتدى المنظمات الشبابية والطلابية الأوروبية المسلمة (FEMYSO) المقيم في بروكسل، والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية (IESH) الذي يدير شبكة مدارس في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وفنلندا، إضافة إلى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث (ECFR) ومقره دبلن، ويوروب تراست (Europe Trust) في المملكة المتحدة.
كما أشار التقرير إلى منظمة الإغاثة الإسلامية العالمية (IRW) التي تنفي أي صلة تنظيمية بالجماعة، رغم وجود ارتباطات شخصية ومؤسسية واسعة بينها وبين شبكة الإخوان في أوروبا.
ووفقًا لتقرير البرلمان الأوروبي الصادر في ديسمبر 2024، حصلت منظمة الإغاثة الإسلامية العالمية على أكثر من 40 مليون يورو من مؤسسات الاتحاد الأوروبي منذ العام 2007، فيما تلقت الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية (ENAR) نحو 23 مليون يورو بين عامي 2007 و2020. وأشار التقرير أيضاً إلى أن جماعة الإخوان تدير مئات المساجد والمراكز التعليمية والجمعيات في مختلف أنحاء أوروبا، ما يمنحها حضوراً تنظيمياً واسعاً وتأثيراً متنامياً داخل المجتمعات المسلمة في القارة.
الحالة الفرنسية مثالا
في مايو/ أيار 2025، قدمت الحكومة الفرنسية تقريرًا سريًا مفصلًا بعنوان "الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا" إلى مجلس الدفاع الوطني.
التقرير، الذي تم تسريبه لصحيفة "لو فيغارو"، يصف كيف بنى الإخوان بنية تحتية واسعة ممولة من الخارج عبر فرنسا.
يعمل الإخوان في فرنسا من خلال نظام مزدوج، هيكل قانوني علني من الجمعيات والمساجد، وقيادة أيديولوجية سرية يوجهها "مجلس القضاة"، وتقدر القيادة الأساسية بـ 400 إلى 1000 عضو ملتزم يديرون أكثر من 280 جمعية و139 مسجدًا
وأظهر تقرير البرلمان الأوروبي أن عدد المدارس القرآنية في أوروبا بلغ 815 مدرسة حتى مطلع 2024، يرتبط ثلثها على الأقل بأيديولوجيات أصولية، بينها 114 مدرسة تابعة بشكل مباشر لشبكة الإخوان.
كما لفت التقرير إلى أن المؤثرين عبر الإنترنت الذين تم إعدادهم وتدريبهم على يد الجيل الأول من قيادات الجماعة باتوا اليوم من أكثر أدوات التجنيد فاعلية، إذ يدمجون في محتواهم بين خطاب الإخوان التقليدي وصور ورموز وخطابات سلفية تُكسب الرسالة انتشاراً وتأثيراً أكبر داخل الأوساط الشبابية.
تُعد الدكتورة فلورانس بيرجو-بلاكلر، عالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية وباحثة المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، من أبرز المتخصصين الأوروبيين في دراسة نشاط الإخوان.
ففي يناير/ كانون الأول 2023 نشرت كتاباً أثار جدلاً واسعاً، وأبرز ما أكدته فيه أن "الإخوان المسلمين يسعون إلى جعل مجتمعنا متوافقاً مع الشريعة".
ومنذ صدور الكتاب، تعيش بيرجو-بلاكلر تحت حماية الشرطة الفرنسية بعد تلقيها تهديدات بالقتل.
ويكشف عملها كيف نجحت الجماعة في توسيع نفوذها على مستوى القاعدة الشعبية، موضحة أن الإخوان يشرفون على الباحثين الذين يتعاونون معهم، وأن من ينسحب منهم يُلاحَق بحملات تشويه تتهمه بالعمل لصالح الشرطة.
أما الدكتور لورينزو فيدينو، مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن، فيُعد الخبير الغربي الأبرز في ملف الإخوان في أوروبا وأمريكا الشمالية.
وقد ألّف كتابين محوريين اعتمدا على مقابلات معمقة مع أعضاء سابقين في الجماعة، ليكشف من خلالهما طبيعة تنظيم يعمل بصبر طويل، ويقدّم نفسه للعلن كتيار معتدل فيما يتصرف داخلياً على نحو أقرب إلى طائفة منغلقة وذات طابع سلطوي.
ويرى فيدينو أن نفوذ الإخوان في الغرب يرتكز على "أرستقراطية نخبوية" من عائلات مترابطة تمسك بمفاصل القرار.
وفي السياق نفسه، أشاد السير جون جينكينز، الدبلوماسي البريطاني الذي قاد المراجعة الحكومية للإخوان العام 2014، بكتب فيدينو قائلاً: "ما يقدمه يجب أن ينير ويقلق كل من يظن أن الإخوان معتدلون، أو أنهم يشكلون جدار حماية ضد التطرف، أو أنهم ملتزمون فعلاً بالتعددية الديمقراطية.
تقييمات أجهزة الأمن الأوروبية
خلال العقدين الماضيين، أجمعت أجهزة الأمن الأوروبية التي عبّرت علناً عن مواقفها تجاه جماعة الإخوان المسلمين على تقييمات سلبية للغاية. ففي تقرير الأمن البلجيكي لعام 2020، جاء أن "الإخوان الدوليين يسعون إلى فرض تعيين أشخاص متأثرين بأيديولوجيتهم في الهيئات التمثيلية، وأن جزءاً من استراتيجيتهم يقوم على إثارة التوترات أو الإبقاء عليها".
أما الاستخبارات الهولندية (AIVD) فاعتبرت أن "الهدف النهائي—غير المعلن—هو إنشاء ثم ترسيخ وتوسيع كتلة مسلمة أرثوذكسية متطرفة داخل أوروبا الغربية" وفق تعبيرها.
بدورها، حذرت الأجهزة الأمنية الألمانية من محاولات الجماعة للسيطرة على الجمعيات الدينية والرياضية والاجتماعية، وتقديم نفسها كمحاور مفضل للسلطات الوطنية والأوروبية.
على المستوى السياسي الأوروبي، أطلق البرلمان الأوروبي تقريراً بعنوان "كشف القناع عن الإخوان المسلمين" أعدته الدكتورة بيرجو-بلاكلر وتوماسو فيرجيلي لصالح مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين.
وكشف التقرير عن ثغرات خطيرة في آليات الرقابة على التمويل الأوروبي، وكيف نجحت جماعات مرتبطة بالإخوان في استغلال هذه الثغرات، داعياً إلى إصلاحات عاجلة.
وفي 8 يوليو/ تموز 2021، أصبحت النمسا أول دولة أوروبية تحظر الإخوان المسلمين صراحة، كما أنشأت وحدة خاصة لمراقبة الإسلام السياسي.
ورغم الجدل الذي أثاره القرار، فإنه يُعد أول محاولة أوروبية حقيقية للتعامل مع تمدد الإخوان ونفوذهم. ويبقى السؤال المطروح اليوم: هل تتبنى دول أوروبية أخرى النهج النمساوي، أم تبحث عن مسارات مختلفة للتعامل مع هذا التحدي المعقد؟