الدعم مقابل كبح نفوذ طهران.. واشنطن تُعيد هندسة سياساتها في العراق
تسعى الإدارة الأمريكية منذ أسابيع إلى بلورة مقاربة جديدة تجاه العراق، تقوم على إعادة تعريف العلاقة بالكامل على قاعدة واحدة، تتمثل بوقف أي دعم أمريكي دون أن تكون هناك إجراءات عراقية قابلة للقياس؛ لكبح النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة.
إعادة تشريح المشهد العراقي
وتؤكّد معلومات خاصة حصل عليها "إرم نيوز" من مصدر دبلوماسي أمريكي رفيع، أنّ هذا التحول يُناقَش في اجتماعات مغلقة بين الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض ولجان في الكونغرس.
وتتمثل الفكرة المركزية في بناء "هندسة تأثير" جديدة تسمح لواشنطن بموازنة النفوذ الإيراني المتراكم منذ 2003، والذي بات وفق تعبير المصدر "يعمل كهيكل موازٍ داخل الدولة العراقية".
ويوضح المصدر أن المراجعة الأمريكية الأخيرة للعراق خلصت إلى نتيجة محورية، بضرورة التخلص التام من تغلغل النفوذ الإيراني في القرار السياسي العراقي، وكذلك الاقتصاد، وشبكات النفوذ داخل الوزارات والهيئات المستقلة.
الرؤية الأمريكية تصف النفوذ الإيراني بأنه "نظام داخلي متشعّب" يعتمد على ثلاث أدوات، أولها الأحزاب السياسية الموالية لطهران، وكذلك الفصائل المسلحة، والاقتصاد الموازي الذي يغذّي الطرفين.
شبكة اشتراطات جديدة
ويضيف المصدر أنّ هذا التشكل لم يَعُد ممكناً كبحه إلا من خلال إعادة هيكلة العلاقة الأمريكية–العراقية بطريقة تجعل الدعم الأمريكي أداة ضغط داخل مؤسسات الدولة ذاتها.
كما يؤكد أنّ واشنطن لا تسعى إلى بناء سياسة عقوبات جديدة، وإنما إلى خلق "شبكة اشتراطات إيجابية"، أي دعم مشروط بإصلاحات سياسية وإدارية تمس جذور النفوذ الإيراني.
وتشمل هذه الاشتراطات، وفق المصدر، "الحد من تدخل الأحزاب الموالية لطهران في تعيينات الوزارات السيادية، وتفكيك شبكات الاقتصاد الموازي المرتبطة بقيادات سياسية وفصائل مسلحة، وضبط حركة الفصائل التي تعمل كقوة سياسية موازية للدولة، ودعم مؤسسات الدولة في مواجهة القوى التي تمتلك شرعية مضاعفة داخل النظام السياسي".
هذه العناصر، بحسب المصدر، هي أساس العلاقة الأمريكية الجديدة مع بغداد.
وبحسب المعلومات الخاصة فإن الولايات المتحدة لا تبحث عن برنامج دعم عابر، إنما تعمل فعلياً على إدراج حزمة دعم مقيّدة بشروط داخل قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA)، في خطوة تُعدّ الأولى من نوعها منذ سنوات.
هذا الإدراج وفق ما يؤكده المصدر يمثل آلية تشريعية تُستخدم كأداة ضغط مُحكمة على بغداد لضبط الدور السياسي والعسكري للأطراف المرتبطة بطهران داخل الدولة العراقية.
في هذا الإطار، يكتسب تصريح النائب الجمهوري جو ويلسون حول استعداد الكونغرس لدعم العراق مقابل تقليص دور المليشيات المدعومة من إيران معناه الحقيقي، فهو مؤشر خارجي لِما يجري داخلياً في واشنطن.
ضغوط متوازية
توضح المعلومات الدبلوماسية أن الولايات المتحدة ترى فرصة سياسية ناتجة عن ثلاثة عوامل: "أولها، تراجع قدرة طهران المالية على تمويل شبكاتها داخل العراق بسبب الضغوط الاقتصادية. وكذلك تصاعد الاستياء الشعبي من نفوذ الجماعات الموالية لإيران، فضلاً عن وجود تصدعات داخل البيت الشيعي نفسه، ما يجعل بعض القوى أقل استعداداً لتوفير غطاء سياسي للفصائل".
واشنطن تعتبر هذه اللحظة "نافذة نادرة" يمكن استغلالها لفرض توازن جديد داخل العراق، شرط أن تتجاوب بغداد بإجراءات واضحة لا لبس فيها.
ويكشف المصدر أن واشنطن تعمل على ثلاثة خطوط ضغط مترابطة، يتمثل أبرزها بالدعم المالي المشروط، بحيث لن يكون أي تمويل أو برنامج دعم أو تعاون اقتصادي بلا بنود واضحة تُلزم الحكومة العراقية بإجراءات لتقليص النفوذ الإيراني، حيث تريد واشنطن أن تنتقل من الدعم التقليدي إلى الدعم الموجّه سياسياً.
وثاني تلك الخطوط يتعلق بإعادة هندسة العلاقة الأمنية، من خلال العمل على تطوير برامج تعاون تسمح بتقوية أجهزة الدولة الرسمية مقابل الأجهزة غير الرسمية التي تدعمها إيران. والهدف من وراء ذلك ليس المواجهة، وإنما إعادة موازين القوة داخل الدولة نفسها.
وثالث تلك الخطوط يبرز من خلال استمرار الضغط عبر شبكة العلاقات الإقليمية والحشد لفكرة أن استقرار العراق لن يتحقق في ظل سيطرة الجماعات الموالية لطهران، وأن استعادة الدولة العراقية تتطلب فكّ الارتباط مع هذه البُنى.
بين الحاجة إلى الدعم وضبط النفوذ
التحليل الذي يستند إلى رواية المصدر يقدّم صورة مركبة. فمن جهة، تحتاج بغداد إلى الدعم الأمريكي اقتصادياً وتقنياً وسياسياً. ومن جهة أخرى، تعيش داخل منظومة سياسية متشابكة لا يمكن فصلها سريعاً عن البنى التي شكلتها طهران.
لكن واشنطن، بحسب المصدر، لا تطلب مواجهة صدامية، بل إجراءات تدريجية تُقاس بنتائج واضحة، مثل إصلاحات إدارية، وتغييرات في آليات التعيين، وتقييد بنية الاقتصاد الموازي، وإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والفصائل.
تُلخّص المعلومات الخاصة أنّ واشنطن لا تريد القطيعة ولا العودة إلى نماذج التدخل السابقة، إذ تريد علاقة من نوع جديد تقوم على دولة عراقية قادرة على اتخاذ قرار مستقل، ونفوذ إيراني محدود داخل المؤسسات، ودعم أمريكي مشروط بسلوك سياسي.
وإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت تراكم نفوذ طهران داخل العراق، فإن المرحلة المقبلة وفق المصدر قد تشهد تغييراً حقيقياً في موازين القوى إذا ما استجابت بغداد لهذا المسار.
كسر شبكة النفوذ الإيراني
ويَعتبر الباحث السياسي العراقي، عبد الله العلاف، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أنّ التحول الأمريكي يمكن أن يكون بداية إعادة تصحيح لميزان منحرف داخل الدولة العراقية منذ سنوات.
ويرى أنّ النفوذ الإيراني لم يعد موضوعاً سياسياً قابلاً للتسوية، إنما أصبح وفق وصفه؛ نظاماً موازياً يلتهم قدرة الدولة على ضبط مؤسساتها، وأنّ أي مقاربة جديدة لا تربط الدعم الأمريكي بإجراءات واضحة ستفشل كما فشلت المقاربات السابقة.
ويوضح العلاف أنّ إدراج الدعم داخل قانون الدفاع الوطني خطوة شديدة الحساسية، لأنها للمرة الأولى تجعل المؤسسة التشريعية الأمريكية طرفاً مباشراً في ضبط العلاقة مع بغداد. ويرى أنّ هذا التطور يضع الحكومة العراقية أمام اختبار حقيقي؛ فإما أن تتعامل مع الدعم بوصفه فرصة لاستعادة جزء من القرار الوطني، أو أن تبقى رهينة تفاهمات تُدار خارج حدود الدولة.
ويضيف أنّ القوى المرتبطة بإيران تشكل شبكة مصالح لا يمكن مواجهتها دون دعم خارجي. وبرأيه، فإنّ واشنطن لم تعد مستعدة لتمويل دولة تُدار بآليات إيرانية من الداخل، وأنّ هذا التحول يشير إلى بداية مرحلة مختلفة قد تُعيد تشكيل الاصطفافات السياسية داخل العراق.
رؤية أمريكية حاسمة
من جانبها، اعتبرت مارغريت ويلسون، المحللة المتخصصة في شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، أنّ المراجعة الأمريكية للعراق جاءت نتيجة تقييم استخباراتي صارم خلص إلى أنّ إيران تستخدم العراق بوصفه منصة استراتيجية لإعادة تشكيل موازين القوة الإقليمية.
وقالت في حديثها لـ"إرم نيوز" إنّ تراكم النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة العراقية، من البرلمان حتى ملفات الطاقة، جعل واشنطن أمام خيارين: "إما الانسحاب من الساحة وتركها لطهران، أو إعادة بناء نفوذها عبر أدوات قانونية واقتصادية مشروطة".
وأكدت أنّ دمج الدعم الموجّه للعراق داخل قانون الدفاع الوطني يعكس اعترافاً أمريكياً بأنّ النفوذ الإيراني لا يمكن مواجهته إلا من خلال هندسة ضغط تربط كل تمويل أمريكي بخطوات عراقية قابلة للقياس.
وأضافت ويلسون أنّ مراكز القرار في واشنطن ترى أنّ إيران بنت في العراق ما يشبه شبكة سيادية داخل الدولة، وأنّ هذه الشبكة تمنحها قدرة على تعطيل أي مسار إصلاحي مستقل في بغداد.
وختمت بالقول: "التحول الأمريكي ليس من أجل العراق فقط، بل من أجل منع طهران من استثماره كامتداد مباشر لأجندتها الإقليمية. العراق ساحة حاسمة، وما نراه الآن هو بداية إعادة هندسة استراتيجية طويلة المدى".