مفكر أمريكي يفجر مفاجآت حول المجرم الجنسي جيفري إبستين.. كيف تحمي النخبة بعضها مهما كان الثمن؟
كشف المفكر الأمريكي أناند غيريدهاراداس عن الوجه المظلم لـ "طبقة النخبة" العالمية، التي أتقنت تجاهل المعاناة الإنسانية واحتضنت الممول والمجرم الجنسي جيفري إبستين.
(من اليسار إلى اليمين) غيسلين ماكسويل، وجيفري إبستاين، والموسيقي مايكل بولتون يقفون لالتقاط صورة شخصية خلال حفل في نادي مار-أ-لاغو، بالم بيتش، فلوريدا، 12 فبراير 2000. / Gettyimages.ru
ففي قلب أحد أكثر المقالات السياسية والاجتماعية إثارة في السنوات الأخيرة في صحيفة "نيويورك تايمز"، ينطلق أناند غيريدهاراداس، هو صاحب كتاب "الفائزون يقتنصون كل شيء: الخدعة النخبوية لتغيير العالم"، في تشريح لا هوادة فيه لظاهرة خطيرة تهدد جوهر الديمقراطية: طبقة النخبة العالمية المحصنة، التي لا تُحاسب، بل تُكرم. وهي الطبقة التي لم تتخل عن جيفري إبستين، المجرم الجنسي المدان، بل رعته، وأعادت تأهيله، وفتحت له الأبواب المغلقة التي لا يطرقها إلا "الموثوقون".
وفي مقاله المنشور في"نيويورك تايمز" بعنوان "كيف يتصرف أهل النخبة عندما لا يراقبهم أحد: إلقاء نظرة على رسائل إبستين الإلكترونية"، يطرح غيريدهاراداس سؤالا يتردد كهدير في وجدان الجمهور الغاضب: "كيف أمكن لهؤلاء الأشخاص البارزين، المنتمين إلى مؤسسات مرموقة، أن يستسلموا لهذا؟"
لكن الكاتب لا يكتفي بالدهشة. بل يذهب أبعد: "القراءة المتعمقة لآلاف الرسائل تجعل الأمر أقل إثارة للدهشة".
لماذا؟ لأن جيفري إبستين لم يكن وحده. كان يملك "نخبة حاكمة تتقن فن تجاهل الألم" — نخبة لم تر في اغتصاب الفتيات الصغيرات سوى "زلة" يمكن غسلها بالصداقات، والولائم، والطائرات الخاصة.
النخبة التي تعيد تأهيل المجرمين، لا الضحايا
يكشف غيريدهاراداس أن القلب المظلم لهذه القصة لا يقتصر على إبستين وضحاياه فحسب، بل يمتد ليشمل شبكة علاقات تضم رؤساء، وزراء، أمراء، مفكرين، مليارديرات، وأكاديميين. شبكة لم تكتف بالسكوت عن جرائمه، بل ساعدته على العودة من براثن السجن، بعد اعترافه بالذنب في قضية دعارة القصر عام 2008، كرجل أعمال نافذ، ومستشار استثماري، بل وحتى كـ "رجل سلطة".
ويؤكد الكاتب أن هذه النخبة لم تخف دعمها له عرضا، بل بشكل منهجي: إعادة ابتكار نفسه لم تكن ممكنة أبدا لولا هذه النخبة، التي غالبا ما تكون مناهضة للديمقراطية، والتي حتى عندما لا تتاجر بالبشر، فإنها تستغل العالم.
طبقة إبستين: ليست مجرد اسم، بل نظام اجتماعي كامل
يقدم غيريدهاراداس مفهوم "طبقة إبستين" كوصف دقيق لأولئك الذين يتنقلون بين السلطة، المال، الخيرية، الأكاديميا، التكنولوجيا، والإعلام، وكأنهم أعضاء في ناد سري لا يهمه سوى حماية مصالح أعضائه.
ويوضح أن هذه الطبقة لا تميز بين الجمهوري والديمقراطي، بين اليساري واليميني، بين المتصوف والملحد: "لورانس سامرز (وزير الخزانة الأمريكي سابقا) مقابل ستيف بانون (كبير مستشاري ترامب سابقا)، ديباك شوبرا (كاتب علوم العصر الجديد) مقابل عالم متشكك في كل روحانية، بيتر ثيل (المستثمر البارز في وادي السليكون) مقابل نعوم تشومسكي ( الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي)، كلهم يشتركون في شيء أعمق من الخلاف السياسي: عضوية في نخبة تضع نفسها فوق الجميع".
"أين أنت اليوم؟": شفرة التواصل بين النخبة العابرة للقارات
يلخص غيريدهاراداس طبيعة هذه الطبقة من خلال طقس متكرر في رسائل إبستين: "أين أنت اليوم؟"
ليست مجرد تحية، بل "فيرومونات" اجتماعية تحدد المكانة، وتهيئ لتبادل المعلومات والنفوذ. ففي هذه الطبقة، لا قيمة للمعرفة العامة، بل للمعرفة الحصرية ما يعرفه القليلون، وما لا يقال علنا.
ويضرب أمثلة صادمة:
- وزير خزانة سابق (سامرز) يتبادل مع إبستين معلومات داخلية عن مكتب التحقيقات الفيدرالي.
- محام رفيع المستوى (كاثرين رويملر) تطلب مشورة مجرم جنسي حول تعيينها كـ"مدع عام للولايات المتحدة".
- مليارديرات يعرضون على إبستين ركوب طائراتهم الخاصة، لا لشيء، بل لأنه جزء من النادي.
النخبة التي لا تُحاسب.. من يحمي المجرمين من العدالة؟
يرسم غيريدهاراداس صورة مدمرة لطبقة لا تدين، بل تبرر. لا تعاقب، بل تكافئ ويقول "الانتقال السلس من الطغيان إلى المكافأة يقطر حقيقة أساسية: بغض النظر عما يحدث، سيكون أعضاء هذه الشبكة بخير."
حتى أولئك الذين يبنون سمعتهم على مكافحة الفساد، كالمحامي كينيث ستار (الذي تتبع بيل كلينتون)، يعيدون اختراع أنفسهم كمدافعين عن إبستين. والصحفيون، كالكاتب مايكل وولف، لا يكتفون بمراقبة النخبة، بل يقدمون لها الاستشارات لتحسين صورتها!
"نحن المواطنون العالميون"... ولكن أين وطننا؟
يقتبس غيريدهاراداس جملة رئيسة من تيريزا ماي: "إذا كنت تعتقد أنك مواطن عالمي، فأنت مواطن لا مكان له".
فطبقة إبستين لا تدين لأي مجتمع، ولا تشعر بالمسؤولية تجاه أي شعب. ولاؤها أفقي لأقرانها في النخبة وليس عموديا للمجتمعات التي تستنزفها.
الديمقراطية على المحك.. عندما تدار البلاد لصالح النخبة فقط
يخلص الكاتب إلى تحذير ملح: "الديمقراطية الأمريكية اليوم في مكان خطير".
الناس لم يعودوا يصدقون أن النظام يعمل لمصلحتهم. يرون كيف يمنح المجرمون فرصا لا نهائية، بينما يحرم العاديون حتى من "الفرصة الأولى".
وهذا الانفصال بين الحاكمين والمحكومين يولد نظريات المؤامرة، ليس لأن الناس سذج، بل لأن حدسهم صحيح:"البلاد لا تُدار لمصلحة معظمنا".
والأدهى أن من استغل هذا الغضب الشعبي، أمثال ترامب، لم يصلح النظام، بل أسس له نسخة أكثر سخرية ولامبالاة، بحسب الكاتب.
الضحايا هم الأمل الوحيد: عندما تُعيد الشهادة توازن العدالة
في لحظة إنسانية نادرة، يشير غيريدهاراداس إلى "الشجاعة الخارقة للناجين الذين تحدثوا عن اغتصابهم: هم من وجهوا أول لكمة حقيقية ضد ترامب، هم من يخجلون اللامبالاة الكبيرة من الأعلى، هم من يذكروننا بأن الدولة يجب أن تستمع عندما يصرخ المستضعفون... في عالم تهيمن عليه طبقة إبستين، يصبح الصوت الهامس للضحية أقوى من كل طائرات النخبة الخاصة".
الخلاصة: لا توجد مؤامرة... بل تآمر علني
يبدو أن الحقيقة أخطر من الخيال: ليست هناك مؤامرة سرية، بل تآمر علني عبر عقود، عبر مؤسسات، عبر مطارات، عبر عناوين بريد إلكتروني.
طبقة إبستين ليست خرافة، بل واقع يدار من خلف الستار المضيء. والمقاومة تبدأ حين ندرك أن العدالة لا تعني معاقبة المجرمين فحسب، بل تفكيك الشبكة التي تصنعهم، وتحميهم، وتعيد تدويرهم كأبطال.